الوطن والحقيبة

في البداية .. هذه قصة كتبها الأخ - عباس هادي عباس زوين - العراق - وهي القصة الفائزة في مسابقة هيئة الإذاعة البريطانية ( BBC ) للقصة القصيرة ، وهي بالفعل قصة تستحق القراءة والتمعن .. فأردت أن أطرحها هنا لأخذ رأيكم في موضوعها عبر تعليقاتكم ...
إليكم القصة :-
رجعت من مدرستها وضعت حقيبتها التي كانت تضمها لصدرها على سرير نومها النظيف، بدأت بخلع ملابسها المدرسية وتعليقها بعناية بعد ازالة ما علق بها من تراب بضربة أو ضربتين من يديها الصغيرتين ، وضعت كل شيء بمكانه المخصص له ، حرصت على نقل الحقيبة للدرج المخصص لها ، إرتدت ملابس البيت وتهيأت للخروج من حجرتها لتناول شئ من الطعام ، قبل أن تغلق باب الحجرة نظرت نظرة للتأكد بأن كل شئ بمكانه وخاصة حقيبتها التي تعشقها ، كانت لا تعلقها كما تفعل البنات بل كانت تضمها لصدرها كما تضم الوالدة رضيعها البكر.

هي الأنثى الوحيدة وسط ثلاتة فتيان ، تميزت عنهم بحبها الشديد لمدرستها بل وكل شئ متعلق بأمور دراستها ، أعدت لنفسها طبقا من البيض المقلي مع كسرتين من الخبز العراقي المنزلي ، تناولت بشهية لقيماتها وهي تفكر بواجباتها المدرسية ، من أي مادة تبدأ ؟ هل تبدأ من مادة العلوم التي تحبها و تعشق مدرسة العلوم لأنها تذكرها بأمها ؟ أم تبدأ من مادة الرياضيات المتفوقة بها لحد أن درجاتها لا تقل عن الدرجة الكاملة بأي حال من الأحوال ؟ أم تبدأ بكراس اللغة الأنكليزية التي تجيدها ؟ أم باللغة العربية المتفوقة فيها ؟ أخيرا قررت أن تبدأ بدرس التربية الوطنية ، نعم أنه سهل بل وأسهل من السهل ، هكذا فكر رأسها الصغير المحاط بجديلتيها المذهبتين وقد لفتا حول الرأس بإحكام فبدت وكأنها قد لبست تاجا مذهبا .

أحست بالشبع ، غسلت الأطباق وأرجعت كل شئ لمكانه ، وبعد إستراحة قصيرة تحدثت خلالها مع والدتها ، ذهبت لحجرتها لكي تبدأ مشوار كل يوم من تحضير وكتابة وحفظ ، تناولت كتاب التربية الوطنية ، كان الموضوع يخص الوطن وبدأت بقراءة الأسطر الأولى : ( الوطن هو تلك الرقعة الجغرافية التي يولد فيها الأنسان وينشأ ويترعرع فيها ، ويتلقى علومه بمدارسها ، فحري بالمواطن الدفاع عن وطنه عند تعرضه لأي إعتداء ، وحري بالوطن الحرص على المواطن وتقديم كل ما يحتاج من تعليم وخدمات وتمريض إلى آخره.. ، فأن للمواطن حقوقا من وطنه ، وعلى المواطن للوطن واجبات ولكن الحقوق أولا ومن ثم الواجبات ) قرأت تلك العبارة بتمعن ولكنها أضافت من تلقاء نفسها : ( بل أن الواجبات أولا ومن ثم الحقوق ، فهل يوجد شئ في الوجود أغلى منك ياوطن؟).

حفظت كل شيء وأنهت كل شئ ، حان وقت نومها ، أخذتها غفوة عميقة وهي تحلم و تحلم بالوطن ، إستيقظت باكرا عند سماعها لضجة صادرة من داخل البيت لم تعتد على سماعها ، وفجأة إقتحم رجال مسلحون حجرتها النظيفة بأحذيتهم، ولطالما حرصت هي على عدم الدخول لها بنعليها ، أمروها أن تأتي معهم ، لم تفهم شيئا ، سحبها أحدهم من يدها الصغيرة بقوة ، ألقاها بعدم إكتراث مع كل إفراد عائلتها قرب الباب ، ياللهول !! رأت أن ما يقارب الخمسة عشر من هؤلاء الرجال المسلحين يطوقون أفراد عائلتها، لم تفهم شيئا على الأطلاق ، فتحوا الباب وأخذوا بإدخال كل أفراد العائلة داخل سيارة كبيرة مجهزة مسبقا وهم يصرخون ( عجم .. عجم .. خونة إذهبوا لغير رجعة لبلادكم ) ، كانت هي آخر من أدخل بتلك السيارة ، آه تذكرت حقيبتها وكتبها ، أرادت الذهاب لأحضارها من داخل المنزل ، لم يسمحوا لها بالنزول بل أشبعوها ضربا وشتما ، صرخت : بالله عليكم دعوني أحضر حقيبتي ، ففيها كل كتبي والمواد التي سندرسها اليوم ، أرجوكم ..أرجوكم . تناثرت الكلمات من فمها الصغير الجميل ، لم يكترث أحد لها ، إستغلت الفتاة حدوث جلبة وفوضى بالمكان ، إستطاعت الأفلات وهربت لداخل حجرتها ، وألقت بنفسها على حقيبتها ، طاردها إثنان من الرجال وأنتزعوا الحقيبة من يديها وألقوها بكل قوة على الأرض ، تناثرت محتوياتها ، صرخت الفتاة صرخة عالية مدوية ، إرتبك الرجلان ، قامت مرة أخرى بالأفلات من قبضتهم ، جمعت محتويات الحقيبة بسرعة البرق ووضعتها كما كانت تعمل في السابق فوق الدرج المخصص لها وتناولت طبشورة ملونة كانت قربها وأحاطت جميع محتوياتها المدرسية بدائرة كبيرة ، وكتبت بيديها المرتعشتين
عبارة : ( أمانة الله ورسوله ).

في الطريق نحو الحدود استفسرت من والدها ، أخبرها : هؤلاء الرجال سوف يرحلوهم بالقوة لأن أصولهم ترجع لذلك البلد القريب من بلدها ، سألت والدها : ولكنا تعلمنا بدرس التربية الوطنية أن الوطن هو المكان الذي نولد فيه ، ألسنا قد ولدنا جميعا هنا ، قال لها الأب : نعم بنيتي بل حتى والدي وجدي مولودان هنا وقد خدمنا بالجيش جميعا وحاربنا أعداء الوطن ، صرخت الفتاة : إذن بالله عليك إخبرهم بالحقيقة لأنهم لا يعرفون أرجوك.. أرجوك ، أنا أحب وطني وأحب مدرستي وأحب زميلاتي وأحب معلماتي ، واليوم بالذات عندنا درس عن الوطن .

دخل رجال آخرون بيتهم وأخذوا جميع محتوياته حتى وصلوا لحجرة الفتاة ، أخذوا كل شيء فيها ولكنهم لم يأخذوا الحقيبة بل لم ينظروا صوب الدرج المحاط بالدائرة .
بعد خمس وعشرين سنة تغير كل شئ ، النظام ، الناس ، هي نفسها لم تعد فتاة بل طبيبة مشهورة ، إستطاعت إسترجاع البيت بالطرق القانونية ، دخلت حجرتها والدموع جاهزة للوثوب من عينيها ، طفرت تلك الدموع بحرارة وقوة عندما رأت أن كل شئ قد تغير في بيتها بإستثناء ما كان ضمن تلك الدائرة الكبيرة.

تعليقات

  1. بالفعل قصه رائعه شكرا جزيلا يا عزيزي ع هذه القصه المؤثره واتمنى المزيد من هذا القصص الممتعة المليئة بالعبر

    ردحذف
  2. أسعدني تواجدك وتعليقك ... لاعدمناك ... وقد جعلتك مدونتك في قائمة أهتماماتي لمتابعتها ... شاكراً لك سابق تفضلك .

    ردحذف
  3. RANOSH
    ========
    اسعد كثيراً عندما ارى تعليقات المملوؤة ... بالأمل

    ==== تحياتي العاطرة =====

    ردحذف
  4. العزيز : تركي الغامدي
    =_=_=_=_=_=_=_=_=_=_=

    بل أنا من أسعد بوجودك ومرورك الكريم ..

    ردحذف
  5. جميله ومعانيها بليغه

    تستحق الفوز

    ..،،

    ردحذف
  6. السلام عليكم ورحمة الله
    نشكر أهتمام السادة الأفاضل بالقصة التي كتبتها وهي مقتبسة من حادثة حقيقية شاهدتها بام عيني وستبقى هذه عالقة بذهني ما حييت وأرجو للجميع الصحة والهناء ..المرسل : عباس هادي عباس زوين كاتب القصة

    ردحذف
  7. قصة رائعة جدا وفقك الله تستحق الفوز بل واكثر اتمنى ان اجد وسيلة للاتصال بك مع تحياتي

    ردحذف
  8. السلام عليكم : عزيزي السيد صلاح العبيدي الأيميل الخاص بي هو : abofadil@yahoo.com وشكرا للمشاعر

    ردحذف

إرسال تعليق

إننا نشعر بالحب
كما نشعر بدفء دمائنا
ونتنفسه
كما نتنفس الهواء
ونحمله في نفوسنا
كم نحمل أفكارنا

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أصدقائي .... اني أحبكم في الله

ســـؤال ... وجواب

غبت عنكي ... ولم ينقطع الحنين